فارس الرومانسية (الاداره )
عدد الرسائل : 616 العمر : 33 البلد : منتداى الغالى العمل/الترفيه : طالب المزاج : نقى تاريخ التسجيل : 16/04/2008
| موضوع: أيام مبارك الأخيرة السبت أبريل 19, 2008 2:13 am | |
| بينما يبدو النظام المصري مرتبكا، تبدو قوي التغيير علي حالة من الارتباك أيضا، وتبدو علي حال من الإعاقة الظاهرة، بعض الإعاقات ينتسب لبيئة السياسة العامة، وبعضها ينتسب لمخاوف من انزلاق إلي المجهول، وأكثرها يتعلق بمصاعب سياسة في تنظيم غضب اجتماعي غير مسبوق في الثلاثين سنة الأخيرة، وبعض مشاهده غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث بإطلاق مراحله.
في البدء، كان غضب السياسة في" كفاية" وأخواتها، كان غزو العراق ـ للمفارقة ـ حدثا مفصليا في مصر، كانت مشاهد تدفق الناس إلي ميدان التحرير ـ في قلب القاهرة ـ موحية، عشرات الآلاف من الناس الساخطين في الشوارع لأول مرة منذ انتفاضة يناير 1977، كانت الهتافات مزيجا من النقمة ضد بوش وضد مبارك وعائلته في الوقت نفسه، كان التدفق تلقائيا بغير تنظيم ولا توقع مسبق، وضد رغبة النظام الذي تورط بالكامل في دعم المجهود الحربي الأمريكي لغزو بغداد.
وبالعكس من التسامح النسبي الذي أبداه النظام في مشاهد التفاعل المصري مع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، وإلي حد مشاركة الحزب الحاكم ـ مع الإخوان ـ في تجمع بمئات الآلاف باستاد القاهرة الرسمي ، كان واضحا أن القصة مختلفة في حوادث 20 و21 مارس 2003، وفيها معني تحدي النظام الذي ضبط بالجرم المشهود، كان واضحا أن القصة أكبر من حساسية المصريين الفائقة لما يجري بامتداد وطنهم العربي الواسع، كان واضحا أن ثمة انشقاقا في الشعور العام، وأن رفض غزو العراق ينطوي علي سبب اجتماعي مصري خالص، فقد كان العراق ـ قبل الحصار فالغزو ـ ملجأ لثمانية ملايين مصري عملوا هناك بشرف وكرامة، كان واضحا أن قصف العراق هو قصف لأرزاق وحياة وذكريات ملايين المصريين في نفس الوقت، وكانت شراسة النظام ظاهرة بالمقابل، مبارك يؤنب وزير داخليته الجنرال حبيب العادلي بشتائم لا يصح نشرها، والسبب : أن المتظاهرين التلقائيين احتلوا منه ميدان التحرير ـ بتعبير مبارك ـ علي مدي يومين، وتدفقت قوات الأمن المركزي بالأردية السود إلي ميدان التحرير، وفي مسرح مواجهة ممتد بالشرايين المتفرعة من ميدان التحرير إلي نقابتي الصحفيين والمحامين علي حافة شارع رمسيس، وجري السحل علي الأسفلت لنائبين من التيار الناصري .
وكانت الوقائع الدامية سببا مباشرا في ظهور جماعات تمرد سياسي كجماعة 20 مارس وجماعة الجبهة الوطنية، بدا التطور الملفت كانشقاق سياسي علي المعارضة الراكدة المتكيفة مع إملاءات النظام الأمني ، وظهرت جماعة 9 مارس لأساتذة الجامعات بنهاية عام الغزو، ثم قفزت ظاهرة الانشقاق إلي الذروة بولادة "كفاية "في نهايات اغسطس 2004، ثم مؤتمرها العلني الأول في 22 سبتمبر 2004، ثم مظاهرتها الأولي في 12 ديسمبر 2004، والتي كانت فاتحة لغضب سياسي ظاهر غير مسبوق في مدي صوته، وفي مدي تحديه لبقاء نظام مبارك تمديدا وتوريثا، فلم يكن سبق إلي الصرخة ذاتها سوي أصوات تمرد صحفي ظهرت تباعا مع مطالع القرن الجاري ، وكان عام 2005 بطوله وحيوية مشاهده مسرحا لغضب كفاية، ووصلت أعداد المتظاهرين الكفائيين إلي عشرة آلاف في أعقاب اغتصاب مبارك الخامس للرئاسة في 7 سبتمبر 2005، ثم بدت علي الظاهرة عوارض يأس وتراجع في الزخم بعد انتفاضة دعم القضاة المحالين لتأديب انتقامي في مايو2006، ومضت الشهور إلي ما قبل نهاية العام هادئة نسبيا، وإن لم تخل من تنظيم احتجاجات دؤوبة مفرقة في الجغرافيا وفي مواضع الاهتمام.
كانت صرخة "كفاية" تبدو متعبة منهكة عند السطح في أواخر 2006، بينما كانت سيرة الغضب الثاني تفتتح فصولها بدءا بإضراب عمال المحلة الأول في 6 ديسمبر2006، لم تكن "كفاية" هي التي دفعت العمال للإضراب، بل كانت صرخة" كفاية" هي التي انتقلت بجسارة الفعل وعدوي الإعلام إلي قواعد اجتماعية واسعة، وانتصرت لدين الغضب المحتجز بدواعي الخوف، ولم تكن بداية الغضب الثاني في المحلة من فراغ، فشركة غزل المحلة هي أكبر تجمع عمالي في مصر، وهي الشركة الصناعية الكبري التي نجت من محرقة الخصخصة وتجريف القواعد الإنتاجية، كان التجريف بالخصخصة قد انتهي إلي تحطيم وإنهاك قلاع صناعية كبري في الإسكندرية وحلوان وشبرا الخيمة وكفر الدوار، وما تبقي قائما كان قد ضعف في حجمه وفي تأثيره بعد إحالة مئات الآلاف للمعاش المبكر.
أضف: أن المناطق الصناعية الجديدة بدت في أغلبها خالية من نشاط نقابي جري حظره، ثم أنها تجمعات مقصورة علي مئات العمال غالبا، وكانت صناعات كبري كالحديد والصلب والسيارات قد جري تحطيم عناصر بقائها، كما جرت خصخصة صناعة الأسمنت وبيعها بالكامل للأجانب، وفي سياق غلبت عليه دواعي تجريف الركائز الإنتاجية، بدت شركة غزل المحلة ـ بقوامها الأكبر ـ هي مركز الفعالية الكامنة بالثقل وبالتاريخ والمدي المتسع لأصداء الصوت.
وهكذا جري ما بدا تجاوبا متسعا مع أصداء إضراب المحلة الأول، إضرابات في مصانع نسيج بكفر الدوار والمنصورة، ثم إضرابات في قطاعات المطاحن والأسمنت والنقل العام، وتوالت الإضرابات العمالية زاحفة إلي صدارة المشهد باتصال شهور 2007، وإلي الآن، رغم أن الإضراب والتظاهر والإعتصام السلمي محظور أمنيا في مصر، بدت الإضرابات العمالية كأنها حالة تمرد تسحب الاعتراف بالتنظيم العمالي الرسمي ، وتوالت معها تمردات وظواهر قلق سكاني باتساع الجغرافيا، من سيناء في الشرق إلي كفر الشيخ علي حواف الدلتا، ومن الإسكندرية إلي جزيرة القرصاية في قلب نيل القاهرة، ومن الخلواتي في البساتين إلي كفر العلو في حلوان، ومن ضحايا عبارة الموت في محكمة جنح الغردقة إلي ضحايا النصب العام في طوخ ومدينة نصر، بدا كأن مصر ـ بقواعدها الإجتماعية الواسعة ـ تصحو من الغيبوبة، وتغادر عهودا من تبلد الشعور، ومن العمال إلي الموظفين وهم قوة العمل الكبري في مصر، بدت الظاهرة ذاتها مطردة، كان إضراب موظفي الضرائب العقارية حدثا باهرا، وامتد بالعدوي إلي قطاعات أخري من الموظفين في وزارة التضامن الاجتماعي ، ثم كان المهنيون ـ بمزيج من الحس الاجتماعي والسياسي ـ في قلب الظاهرة، احتجاجات غير مسبوقة للصيادلة والأطباء، وتصاعد نشاط واحتجاجات جماعة مهندسون ضد الحراسة .
وبدت المحلة كأنها المحل المختار لتفجير وتطوير كفاية اجتماعية ، فقد عادت للإضراب في أواخر سبتمبر 2007، بل وطورت أساليبها للتظاهر داخل وخارج أسوار المصنع، وفي قضايا وطنية عامة امتدت لأفق قومي عربي كمناصرة كفاح غزة قبل شهور، قبلها كانت مطالب قادة إضراب عمال المحلة ـ وفيهم مزيج من الأفكار الناصرية واليسارية ـ تشهد تطورا بدا ملفتا، فقد طوروا مطالبهم الاقتصادية المــــحدودة إلي مطلب اجتماعي عام، وطالبوا بحد أدني للأجور للكادحين في مصــــر كلها، طالبوا بأن يكون الحد الأدني للأجور 1200 جنــــيه في الشهر، أي أن يكون الحد الأدني للأجور عند خط الفـــقر الدولي المقدر بدولارين في اليوم، وهو ما يعني رفع إجمالي الأجور في مصر إلي ما يزيد علي أربعة أضعافها، وهو مطلب مستحيل التحقق مع بقاء النظام، وهكذا بدا مطلب الأجر العادل مطلبا سياسيا في جوهره، فلا فرصة لوصول إلي أجر عادل دون توافر الحكم العادل، أي أنه لا فرصة لكسب حق الحياة إلا أن ينتهي حكم مبارك وعائلته، وهو ما يعني درجة محسوسة من تسييس الغضب الإجتماعي الذي تتدفق مشاهده يوميا، وبمعدل قد يصل ـ في المتوسط ـ إلي إضرابين أو إعتصامين أو احتجاجين في اليوم الواحد.
في الغضب الأول، بدا تمرد القضاة، والتمرد النسبي لقطاع من أساتذة الجامعات، بدا تمرد قطاعات من النخبة كثمرة مباشرة لاختراقات "كفاية"، و في الغضب الثاني بدت مصر كبلد عائم فوق آبار سخط مخزون، وإن بدا تائها ومفرقا، بدا كأننا في وضع ثوري بدون قوة ثورية كافية، بدا كأننا نقترب من خط نهاية نظام يمضي أيامه الأخيرة في ارتباك ظاهر، لكن لسنا ـ بالضرورة ـ عند خط إعلان الثورة، فالنظام في مأزق اقتصاد لافكاك منه، وأزمة الخبز تبدو بلا حل أكيد حتي مع استدعاء الجيش، والزيادة الفلكية المتصلة في معدلات الغلاء والتضخم مع تدني الأجور وتبخر قيمتها الشرائية، وتوحش الفقر والبطالة والعنوسة والبؤس والكبت العام، كلها عناصر بيئة توتر تسمح بتوقع موجة غضب ثالث، غضب يمزج السياسي بالاجتماعي ، وإن كانت الإعاقات ظاهرة، فأحزاب المعارضة المرخص بها رسميا لا تبدو مستعدة للمشاركة في تمرد سياسي ، فهي في حالة من الضعف المزري ، والاختراقات الأمنية واصلة إلي القمة في الكثير منها، ثم أن الإخوان ـ وهم أكبر جماعة مدنية خارج الحكم ـ في حالة تردد مزمن، بعض التردد يمكن فهمه بدواعي اختيارهم الاقتصادي الاجتماعي المقارب لاختيار الحكم، وأغلب التردد عائد إلي تفكير القيادة ـ في مكتب الإرشاد ـ علي نحو قبلي بحت، فقد بدا الإخوان رغم استفحال ظاهرة اضطهادهم من قبل الحكم، بدا الإخوان ـ علي كثرتهم العددية ـ في حالة غياب كامل عن مشهد الغضب الاجتماعي ، بل انزلقوا إلي دور موانع الصواعق أحيانا في جولات غضب الأوساط المهنية بالذات، تحالفوا مع النقيب الحكومي لتعليق إضراب كان مقررا لنقابة الأطباء، وبدا التردد الرسمي ظاهرا في موقف غالب أساتذة الإخوان ـ في قيادة نوادي هيئات التدريس ـ ضد إضراب أساتذة الجامعات، وقد نجح الإضراب بأكثر مما كان متوقعا، رغم انه غير مسبوق في التاريخ المصري ، وشارك فيه نحو ستة آلاف أستاذ جامعي ، وانضمت إليه قطاعات من أساتذة الإخوان الأكثر راديكالية في جامعتي الإسكندرية والمنصورة بالذات، وبدت الغلبة للروح الراديكالية الساكنة في جماعة 9 مارس، وبدا نجاح إضراب أساتذة الجامعات، ودعوة عمال المحلة إلي دعم وطني لإضراب 6 إبريل حتي لو تأخرت مواعيده ووعوده، بدا الإضرابات كلحن افتتاحي لغضب من نوع مختلف.
وبدا ربيع 2008 كامتحان لمصائر الغضب المصري ، فقد تداعت كفاية وقوي ناصرية وإسلامية ويسارية ـ كلها محظورة التنظيم ـ إلي يوم غضب جامع، وبدا موقف جماعة 9 مارس قريب الصلة، إذ أن عددا مؤثرا من قادتها هم قادة بكفاية في ذات الوقت، وجري تطور لافت في موقف الإخوان ببيان يؤيد الإضرابات صدر عن المرشد العام مؤخرا، أي أننا بصدد نواة قابلة للتشكل، وتبدو اكثر صلابة، ومرشحة لاتساع وارد ممتد إلي قادة الغضب الاجتماعي والشخصيات الوطنية العامة، وتبدو مستعدة لمزج الغضب السياسي بالغضب الاجتماعي ، وتشكيل إئتلاف جامع للتغيير، وهي الدعوة التي بادرت إليها كفاية، وصاغت برنامجها السياسي والتنظيمي ، وأصدرت نداء للمصريين ختمته بالنص علي دعوة الشخصيات العامة والقوي والأحزاب والجماعات الحية وقيادات الغضب الاجتماعي إلي تكوين ائتلاف المصريين من أجل التغيير، ائتلاف وطني جامع لأحزان وأشواق المصريين، يعتصم بحبل المقاطعة لحكم الفساد والاستبداد، ويعتمد أساليب العصيان والمقاومة المدنية السلمية لكسب الحرية، ويستدعي ضمائر العالم لنصرة قضية الشعب المقهور .
فهل تنجح دعوة ائتلاف التغيير؟ وهل يكون غضب مصر الثالث خاتمة مطاف مصر المرهق، أم أنها قد تنزلق إلي نهايات مفزعة، أو إلي انفجار تلقائي بتكلفة دم ودمار لا يريدها أحد؟ كلها أسئلة برسم مصائر بلد عظيم منكوب.. وغاضب
اقرأ ايضا للدكتور عبد الحليم:
أيام مبارك الأخيرة
عقارب الساعة تدور مسرعة إلي النهاية في مصر، والعد التنازلي لنظام مبارك يمضي إلي لحظة الصفر، ولكن من دون أن يكون واضحا إلي أين يذهب البلد العظيم بمكانته في الجغرافيا والبائس بانحداره في التاريخ.
ومبارك نفسه يبدو هاربا من المأزق في الداخل، ومكثرا من زياراته للخارج، ومثيرا لأسئلة حول جدوي جولاته الأخيرة إلي بولندا ثم إلي موسكو، ذهب إلي وارسو في زيارة امتدت لأيام، ومن دون أن يفهم أحد لماذا بولندا بالذات، وهل كانت الزيارة لمجرد تلقي وسام من رئيس أجنبي بعد أن عزت عليه الأوسمة في مصر؟
ثم كان الذهاب إلي موسكو عاكسا لحيرة الأيام الأخيرة، فقد التقي بوتين ـ كما قيل ـ لبحث فرص التعاون النووي السلمي، وفي الوقت الذي لم تحسم فيه القاهرة ـ وربما لن تحسم قريبا ـ فرص اللجوء النووي إلي موسكو، أو تفضيل هوامش حركة أكثر أمانا باتجاه باريس أو واشنطن، وفي الوقت الذي يبدو فيه الطموح النووي ـ حتي لو كان متأخرا ومشوشا ـ سياسة قد تليق برجل يبدأ حكمه، وليس برجل زهق منه كرسي الحكم، وعلي مدي 27 سنة بليدة مرهقة، وأثقلت كاهله سنواته الثمانون التي يتمها في 4 ايار (مايو) 2008، وقد بدا ـ في الصور ـ كمسن ذاهب تطيش يده في الهواء بحثا عن يد الرئيس الروسي المنتخب ديمتري ميدفيديف الذي يخلف بوتين في ايار (مايو) نفسه، وإلي حد بدا معه ميدفيديف مبتسما للمفارقة، فقد كان وجها لوجه مع رجل في ضعف عمره، كان وجها لوجه مع مومياء رئاسية بدت كأثر فرعوني، بينما مبارك يفتح فمه في ضحكة مومياوية، ويتعجب من تقلبات الدنيا التي تلجئه لمصافحة شاب غر يحمل هو الآخر لقب الرئيس، بينما عاصر مبارك ـ في مقام الرئاسة المصرية ـ سبعة رؤساء في موسكو من بريجنيف إلي ميدفيديف!
وفي القاهرة، بدت محنة مبارك أوضح مع وزارته السابعة برئاسة أحمد نظيف، والتي اختار نجله ـ الموعود بالوراثة ـ رئيس وزارئها، وأتي بوزرائها الاقتصاديين بالذات من مجموعته السياسية في الحزب الوطني، وانتهت إلي إفلاس تام لا تفيد معه أوهام ولا أرقام عن نمو اقتصادي غير مسبوق تحت حكم مبارك، بدا الرئيس الشائخ ضائعا بالحيرة والذهول في اجتماعاته مع وزراء الحكومة، وسأل في تعجب عن سر أزمة رغيف العيش، وطوابير الخبز التي تحولت إلي ميادين لحروب أهلية مصغرة، وإلي وظيفة مضمونة لغالبية المصريين إلي آناء الليل وأطراف النهار، وبدا الرئيس ـ المسكون بعقدة الأمن ـ خائفا من العواقب المهددة، خاصة وأن أول حظه السياسي ـ بعد أن عينه السادات نائبا له أواسط السبعينيات ـ كان انتفاضة الخبز في 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، وربما لذلك بدا مبارك مصمما علي استدعاء الاحتياطي الاستراتيجي في لحظة الخطر، فقد أمر باستخدام احتياطي النقد الأجنبي الاستراتيجي (30 مليار دولار) في شراء كميات كافية من القمح، وأمر الجيش بتكليف جهاز الخدمة الوطنية باستخدام أقصي الطاقة الآلية لانتاج الخبز، بل وفوض الجيش أمر توزيع الخبز بالقاهرة وما حولها.
وبدا التصرف عاكسا لانعدام ثقة مبارك كليا في الجهاز الإداري والمدني لدولته، فقد ترهل وفسد وعجز، ونخر السوس في عظامه، وصارت الحكومة صورية، وربما يكون إبدالها بحكومة مدنية لاحقة دورانا في الطاحونة الفارغة، وهو ما دعا أنصارا لمبارك إلي طلب هامس بتشكيل حكومة عسكرية، وإن بدا مبارك كعادته مترددا، فهو لا يعرف إلي أين تمضي الأمور به مع المزيد من خطوات استدعاء الجيش، ويتعرض ـ في الوقت نفسه ـ لضغوط عائلية هائلة من نجله وزوجته المتورمة النفوذ في الجهاز الإداري للدولة، ثم ان المحنة تبدو أكبر من أن تتجاوزها فكرة العسكرة الظاهرة المباشرة للنظام.
فأصل المحنة في اقتصاد جري نهبه وتجريف قواعده الإنتاجية، وتحول إلي اقتصاد ريع يعتمد علي السياحة ورسوم قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين في الخارج، وكلها موارد معرضة للتأثر بتغيرات البيئة الدولية والإقليمية، وقد بدت التغيرات الاقتصادية الدولية الأخيرة عاصفة في تأثيرها علي اقتصاد مبارك الهش، فقد زادت أسعار الغذاء ومنتجات الطاقة دوليا، وتتوالي الزيادات بصورة يومية، وهو ما جعل عبء فاتورة القمح عنصرا ضاغطا بشدة علي فرص بقاء النظام المصري، فقد تحولت مصر ـ مع خراب عهد مبارك ـ إلي المستورد الأول للقمح في العالم كله، وقد زاد سعر طن القمح في السنتين الأخيرتين وحدهما إلي أكثر من الضعف (من 260 دولارا إلي 540 دولاراً)، وهو ما يعني مضاعفة الدعم الموجه لرغيف الخبز، وهي تكلفة فوق طاقة الموازنة المقعدة بعجز يصل إلي ثلث إجماليها، والمثقلة ـ أصلا ـ بأقساط وفوائد ديون خارجية وداخلية تفوق في حجمها إجمالي الناتج القومي.
ولا يملك حكم مبارك أن يسدد فاتورة القمح بغير استنزاف متعجل للاحتياطي النقدي الاستراتيجي، فقد كانت مصر قبل مبارك تستورد ربع احتياجاتها السنوية من القمح فقط، ومع تخريب الزراعة في سنوات حكمه، والتغيير العابث في التركيب المحصولي، فقد أصبحت مصر تستورد أكثر من ثلثي احتياجاتها من القمح، أضف: منتجات الطاقة التي تشتعل أسعارها، وتضاعف ـ أيضا ـ فواتير دعم نقدي سنوي تقدر بخمسين مليون جنيه مصري، فرغم أن مصر بلد مصدر للبترول والغاز الطبيعي، إلا أن انحطاط الصناعة ـ ووأد تطورها ـ جعلها في قائمة المستوردين لمشتقات البترول، وراكم أعباء مالية إضافية، فوق إهدار موارد مالية باتفاقات لصوصية مجحفة في صفقات الغاز الطبيعي بالذات.
أضف: تدهور قيمة الجنيه المرتبط حصريا بالدولار الأمريكي الذي يواصل انخفاضه دوليا، والدولار الآن ـ بسعر الصرف ـ يساوي خمسة جنيهات ونصف تقريبا، وكانت قيمة الجنيه قد نزلت إلي النصف بعد أول قرار اقتصادي لجماعة جمال مبارك لتحرير سعر الصرف في كانون الثاني (يناير) 2003، وهكذا تبدو الصورة مرعبة في تداعياتها، اقتصاد مفلس غير قادر علي توفير الحد الأدني من شبكة الأمان الاجتماعي مع تفاقم مشكلات الفقر والبطالة والعنوسة والغلاء، وتآكل القيمة الحقيقية للأجور، ونزول الغالبية العظمي من المصريين إلي ما تحت خط الفقر الدولي المقدر بدولارين في اليوم للفرد الواحد.
| |
|